ما إن انتهت مقابلة الفريق الجزائري لكرة القدم في مواجهة نظيره الموريتاني الشقيق في الدور الأول لكاس أمم إفريقيا (كان 2023) بدولة ساحل العاج (كوت ديفوار) سهرة يوم الثلاثاء 23 جانفي 2024 حتى انهمرت سيول الانتقادات واحتدت نبرة الاحتجاجات ضد الطريقة التي اختارها المدرب الوطني جمال بلماضي لخوض منافسات الدور الأول، وأصبح بلماضي مشجب الفشل الذي علق عليه جل الأنصار مشاعر الخيبة ومرارة الإحباط من عدم إدراك التأهل إلى الدور الثاني، رغم أن الفريق الوطني الجزائري لكرة القدم يمتلك كوكبة من النجوم والمواهب الكروية ذات المستوى العالمي والسمعة الدولية. بعد أسبوع واحد من الهزيمة المرة والصادمة للفريق الوطني لكرة القدم أمام المنتخب الموريتاني الشقيق والتي قذفت بالمنتخب الجزائري خارج منافسة نهائيات كأس إفريقيا للأمم 2023 من الدور الأول، رسمت الاتحادية الجزائرية لكرة القدم يوم الثلاثاء 30 جانفي 2024 إنهاء مهمة المدرب الوطني جمال بلماضي في تدريب الفريق الوطني، معلنة في بيان رسمي بأنها: «قامت بطي صفحة الناخب الوطني جمال بلماضي بشكل نهائي وتخطط الآن لتحدّ جديد مع مدرب جديد وطاقم فني جديد
سيتم تعيينه قريبا». رغم أن هذا القرار كان متوقعا نظرا لمشاعر الحزن والخيبة والغضب التي فجرها الإقصاء المبكر والمفاجئ للمنتخب الوطني في نفوس أغلب فئات الشعب الجزائري الشغوفة بلعبة كرة القدم، والمتطرفة في حب الجزائر، والعاشقة لطعم الانتصار،المتطلعة دوما لرفع الراية الوطنية عاليا وعزف النشيد الوطني في كل المنافسات القارية والدولية. يمكن القول إن لعبة كرة القدم لم تصبح قضية مزاج طائش، أو لهو منفلت، أو مضيعة للوقت، ولكنها أصبحت قضية شغف وطني ومظهر من مظاهر القوة الناعمة للدول.ولم يصبح من المستغرب أن تتحول مقابلة في كرة القدم بين فريقي بلدين متنافسين إلى جسر معنوي لتقوية روابط الصداقة والتواصل والتآلف، أو عامل من عوامل توتير العلاقات وتسعير الأحقاد وتأجيج العداوات والمشاحنات بين الشعوب أو بين المناطق والجهات. ففي الساحات العامة، وفي وسائل النقل العمومي، وفي المقاهي، وقاعات المطاعم، وصالونات الحلاقة، وفي داخل المنازل، وحتى في مكاتب المؤسسات والشركات،كان الحديث يتركز على أطوار منافسات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم وخصوصا نتيجة لقاء الجزائر وموريتانيا الذي ختم مباريات الدور الأول للفريق الجزائري في المنافسة الإفريقية. كانت كرة القدم هي الشغل الشاغل للكبير والصغير، والمتعلم والأمي، والغني والفقير، لذلك كانت الأخبار التي تم تداولها إعلاميا عن تعنت المدرب جمال بلماضي بعدم إنهاء عقده مع المنتخب الوطني، وتمسكه بحقوقه المادية المنصوص عليها في عقده الموقع مع الاتحادية الجزائرية لكرة القدم الذي يمتد إلى غاية 2026 مع الفريق الوطني، قد زادت الطين بلة، ودفعت بأمور كرة القدم الجزائرية إلى المزيد من التأزم ومشاعر المناصرين إلى المزيد من التشنج في هذا الظرف الرياضي المتوتر،وقد فسر تصرف الناخب الوطني جمال بلماضي بعد عودته إلى الجزائر، على أنه استهانته بمشاعر الاستياء التي طبعت ردود فعل أغلب الجماهير الجزائرية المنتقدة للحصاد الهزيل والنتائج المخيبة للآمال التي ميزت مردوده في السنوات الثلاث الأخيرة على رأس المنتخب الوطني لكرة القدم.
كانت الأمور تبدو سائرة بسلاسة في اتجاه فك الارتباط بالتراضي بين المدرب جمال بلماضي والاتحادية الجزائرية، إذ أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية، يوم الأربعاء 24، غداة الهزيمة أمام منتخب موريتانيا أن بلماضي ابلغ لاعبيه في غرف تبديل الملابس بأنه مستقيل من منصبه، وتوجه بالتحية للجميع على ما بذلوه. وهو الأمر الذي شجع رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم وليد صادي،حسب مصادر من الاتحادية الجزائرية، للاجتماع مع جمال بلماضي والحديث معه عن اتفاق ودي بحل الارتباط وفك العقد الذي يربط المدرب بالاتحاد الجزائري لكرة القدم. ووعد وليد صادي بالتغيير الجذري لأوضاع الكرة الجزائرية، قائلا: «نعد عشاق ومحبي المنتخب الوطني أن ما حدث هو بداية لتغيير جذري بل وثورة حقيقية على مستوى المنتخب الوطني الجزائري من أجل تهيئة بيئة مثالية للعمل والبناء على هذا التعثر من أجل استعادة مكانتنا قاريا ودوليا». مسارعة رئيس الاتحادية الجزائرية إلى الإعلان عن هذا اللقاء عبر تغريدة قبل العودة إلى الجزائر، يبدو أنها أثارت استياء جمال بلماضي الذي اعتبره إهانة شخصية له، وتقليلا من مكانته وتنكرا لجهوده في خدمة الفريق الوطني، وجعله يتراجع عن التفاهم الشفوي مع رئيس الاتحادية ويرفض بالتالي فسخ عقده بالتراضي ويغادر الجزائر نحو مسكنه بدولة قطر دون التوصل إلى اتفاق مع رئيس الاتحادية الجزائرية لكرة القدم، خصوصا أن العقد الذي وقعه جمال بلماضي مع رئيس الاتحادية الجزائرية السابق جهيد زفيزف لا يفرض أي شروط على بلماضي ولا يضع عليه أية التزامات بتحقيق نتائج محددة في مساره التدريبي. التصرف المتسرع من رئيس الاتحادية الجزائرية وليد صادي اعتبره المعلق الرياضي الشهير حفيظ دراجي في كتاباته في مواقع التواصل الاجتماعي بأنه جاء لامتصاص غضب المناصرين وتطمينهم على مصير المنتخب الوطني، ولكنه أثار في الواقع حساسيات كان الفريق الوطني في غنى عنها.
منتقدو الناخب الوطني جمال بلماضي الذي تولى تدريب المنتخب الوطني سنة 2018، وحقق معه كأس أمم إفريقيا في سنة 2019 التي أقيمت في مصر، يتهمونه أنه بعد هذا الإنجاز اليتيم راكم على مدى ثلاث سنوات العديد من الإخفاقات والهزائم، بداية من الإقصاء المهين للجزائر (بطل النسخة السابقة لكاس إفريقيا) في الدور الأول من كأس أمم إفريقيا في الكاميرون سنة 2021، ثم الفشل في التأهل إلى مونديال قطر سنة 2022، وصولا إلى الإقصاء الصادم من الدور الأول(كان 2023) في كأس إفريقيا للأمم بكوت ديفوار في سنة 2024. لكن جمال بلماضي يصر على الدفاع عن نفسه، قائلًا: «عندما وصلت (لتدريب الفريق الجزائري) كنا في المركز 14 في تصنيف كاف (التصنيف الإفريقي)، وفي المركز 60 في تصنيف فيفا (التصنيف العالمي)، والآن نحن في المركز الرابع في تصنيف كاف، وفي المركز 30 في فيفا».
ويتأسف بلماضي لكون منتقديه لا يذكرون أنه ثاني مدرب جزائري أوصل الفريق الوطني لكرة القدم إلى الفوز بكأس أمم إفريقيا في سنة 2019 بعد 29 سنة كاملة من تحقيق المدرب الوطني الأسبق، الراحل عبد الحميد كرمالي، هذا الإنجاز في سنة 1990 على أرض الجزائر.
المعلق الرياضي في قنوات «بين سبورت» القطرية ذات الانتشار العالمي حفيظ دراجي اتهم جمال بلماضي بخداع الجزائريين، بعدما طلب تقاضي كامل قيمة عقده حتى عام 2026، فكتب عبر حسابه على منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي قائلا: «يبدو أن العقد الذي ربط جمال بلماضي بالاتحاد الجزائري لم يكن معنويًا مع الشعب مثلما قيل لنا، بل هو عقد مادي بحت»، وأضاف : «يطالب المدرب الآن بكل مستحقاته إلى غاية 2026 مقابل رحيله، وهي مستحقات مقدرة بأكثر من 7 ملايين يورو، في حين اقترح رئيس الاتحاد الجزائري تعويضات لا تتجاوز 3 أشهر بقيمة 624 ألف يورو، وللعلم فإن جمال بلماضي حصل منذ سنة 2018 على أكثر من 12 مليون يورو كرواتب ومكافئات دون أن يتضمن عقده أهدافا محددة خلافا لما تعودنا عليه في عقود كل مدربي العالم».
حقا إن لعبة كرة القدم هي مرجل العواطف المتناقضة ومفجر كل المشاعر المتطرفة، لكن يتوجب الحذر – مع ذلك- من ردود الأفعال العفوية والآنية للمناصرين والصحافيين المتحاملة ضد حصيلة المدرب الوطني في كأس إفريقيا بكوت ديفوار، فبعض الصحف التي سبق لها أن نسجت أكاليل المجد لجمال بلماضي وأطلقت عليه لقب «وزير السعادة»، وأثنت بلا تحفظ على حكمته وحنكته في مجال التدريب، وأشادت بتفوقه على مدربين كبار وكانت تعتبر مجرد انتقاده مناورات من «مافيا» رياضية حاقدة على الجزائر وحاسدة لانجازاتها الكروية وانتصاراتها المتواصلة والتي بلغت 35 انتصارا متواليا تحت قيادة جمال بلماضي، أصبحت تبشر قراءها باستبدال جمال بلماضي عاجلا على رأس الفريق الوطني،وتحمله مسؤولية نكسات الكرة الجزائرية وتؤكد أن تطور كرة القدم الجزائرية مرهون برحيل صانع ملحمة الفوز بالكأس الإفريقي في مصر سنة 2019، في وقت كانت الجزائر تمر فيه بأزمة متعددة الأشكال والمستويات، في ظل اهتزاز ثقة الجزائريين في قدراتهم ومستقبل بلادهم. ولكن بعد الفوز بكاس إفريقيا في مصر سنة 2019 عاد شعور العزة الوطنية يملأ نفوس ملايين الشباب الجزائريين ويؤلف بين قلوبهم ويوحد حناجرهم في ترديد مقاطع النشيد الوطني في الملاعب، والساحات والشوارع، وكانوا يرفعون ألوان الراية الوطنية في القاهرة و الجزائر وباريس ولندن … وغيرها من مدن وعواصم العالم، وأصبحت عبارة: «وان- تو- ثري فيفا لالجيري» رمزا عالميا لأفراح الجزائر وانتصاراتها الكروية.لقد تحولت لعبة كرة القدم إلى مسرح عالمي مفتوح والناس تبحث فيه عن البطل المنتصر الذي تتماهى به وتتقمص مشاعره للتنفيس عن أزمات الواقع وتوترات الحياة المتسارعة الإيقاع،
ومازال البشر يحبون بفطرتهم الانتصار ويمقتون الهزائم والانكسار، ولذلك كان الجزائريون بصفة خاصة ومحبو كرة القدم في العالم بصفة عامة ينتظرون وصول الجزائر إلى الدور الثاني وربما الذهاب إلى أبعد من ذلك في كأس أمم إفريقيا (كان 2023)، ولكن كم كانت الخيبة كبيرة والغضب عارما على المدرب الوطني الذي اتهم بالتسبب في خروج الحلم الأخضر من الباب الضيق واغتيال أفراح وطموحات ملايين الجزائريين وتخييب آمال بعض العرب الذين راهنوا على الفريق الجزائري لتشريف الأمة في منافسات كأس إفريقيا. ولكن إذا كان غضب الجماهير الجزائرية قد انصب في هذه المرة على المدرب الوطني جمال بلماضي وخطته الكروية غير المتجددة، فإن مسؤولو كرة القدم الجزائرية بصفة عامة، ومسؤولو الاتحادية الجزائرية لكرة القدم بصفة خاصة، سيكونون في مرمى الغضب الجماهيري ونقمة الأنصار إذا حدثت نكسة كروية أخرى في مستقبل الأيام مع مدرب جديد،لأن تعثر مسار الكرة الجزائرية ومشاكلها المادية والأخلاقية المعلومة والمستترة ليست فردية ولا مقتصرة على فشل المدرب وحده، والمثل يقول: «الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب».